التفكير النقدي، بين الإنسان والآلة
قراءة المقال باللغة الإنجليزية.
نعيش في مجتمعاتنا العربية في عصر يتسم بالتغيرات السريعة في ظل التحولات التكنولوجية التي تدخل في جميع مناحي الحياة، مما يفرض تحديات جديدة لها علاقة بإعادة التفكير في كيفية تشكيل المعرفة وتراكمها، المعرفة التراكمية ليست مجرد آداة تعزز من قدرة الأفراد على فهم أنفسهم والعالم من حولهم، فهي ذاتية وتعتمد على الفرد في بناء عالمه في رحلته نحو المعرفة التراكمية والتي يجب على على كل فرد أن يقطعها. ومع التحولات التي شهدتها المعرفة التراكمية في السنوات الأخيرة، فالمعرفة الحديثة باتت مختلفة عن المعرفة التقليدية إذ أصبحت أكثر انفتاحاً خاصة في عصر المعلومات. ولكن كيف لهذه المعرفة أن تسهم في إحداث ثورة في الوعي الإنساني بات السؤال الأكثر ترقباً.
المجتمع بحاجة لـ 10-15 عاماً وهو الوقت الذي تحتاجه لتعليم جيل واحد من الأطفال أو الأفراد وعلى تشكيل وعيه ونظرته للحياة! منذ العام 2013، بدأنا نشهد ازدهار التكنولوجيا الرقمية والتعلم الإلكتروني وظهور التعلم المصغر لاحقا فالتعلم بالذكاء الإصطناعي، مما أتاح للأفراد فرصًا جديدة للوصول إلى المعلومات وتبادلها ومواكبة التحولات التكنولوجية.
من التحديات التي تواجه المعرفة التراكمية في العالم العربي، إذا بحثنا في كيفية نشأة الفرد في المجتمع، فالفرد ينشأ وفي أمامه خط محدد، لا تعتمد ثقافته على الحث على التعلم اللامنهجي فهي مستقاة من معرفة جامدة وليست حيوية، فيبدأ بالتعليم الرسمي بدخوله إلى المدرسة، ويبدأ معها ما يسمى مرحلة "التفكيك الإخلاقي" Demoralization وهي في حقيقتها فرصة للأفراد أن يصبحوا أكثر وعياً وتفكيراُ نقدياً في تعاملهم مع القضايا المعاصرة، ويستغرق تفكيك المجتمع من 10-15 سنة وهو الوقت الذي تحتاجه لتعليم جيل واحد من الطلاب، حيث يتم استبدال الأديان بطوائف تعمل على تآكل الأديان أوفي تقديم نسختهم الخاصة عن الدين وجذبهم إلى ايدلوجيات ومعتقدات مختلفة كثقافة إسلامية غير متسامحة، ومن خلال استبدال المنظمات التقليدية بمنظمات مزيفة ونزع الروابط من الصلات الطبيعية واستبدالها بمجموعات أخرى كالوسائل الإعلامية التقليدية المحكومة بالعادات الرثة والمبنية على العنف ضد المرأة وقائمة على الأعراف الاجتماعية القامعة للحريات، وهو بهذا يستقي معرفته من هذه الوسائل، ويتم التركيز على فكرة دخول سوق العمل والإقتصاد المنزلي والميول الجنسية بدلا من تعليمهم ما هو أساسي كالتفكير النقدي!
ويتم التركيز على دخول الجامعة وحصوله على شهادة وهو بهذا يحصل على ورقة وليس معرفة! فبدلاً من تعليم الأفراد كيفية التفكير وتحليل المعلومات، يتم التركيز على الحصول على الشهادات دون اكتساب معرفة حقيقية. بل بات عليه أن يطور مهاراته للبدء بالمنافسة باكراُ وبناء علاماته الشخصية وأن يكن شخصية مؤثرة! ولكن أين هو المعنى من كل ذلك؟!
ومن ثم تأتي مرحلة الزواج وإنجاب الأطفال وما إلى ذلك، فالفرد ينشأ وفق هذا الخط والمعرفة ليست أولوية في حياته وذلك بسبب العوامل الإجتماعية والإقتصادية وهي محرك لحياة الفرد وليست المعرفة، فالمعرفة ليست أولوية، لأن الفرد ينشأ في المجتمع يتم التركيز على الجانب الفيزيائي المادي وليس هناك تركيز على الجانب الروحي أو المعنوي المعني بالمفاهيم المرتبطة بوجوده. الفرد بالمعرفة التراكمية يخضع لهذه التجربة الروحية لأنه يخضع للعديد من المفاهيم الوجودية والفلسفية ويكون انتقائي في رحلة المعرفة التراكمية والتي يجب على كل فرد أن يقطعها، وفيها يحاول أن يفهم نفسه والآخرين ويفهم العالم حوله، ومن ثم الوصول إلى التوازن التراكمي، التربية المعنوية مهمة فهنا نتحدث عن اكتشاف الوعي الإنساني من خلال معرفة الذات، وخلق المعنى لا يمكن أن يتم إلا من خلال الوصول للوعي الإنساني.
الآلة التي غيرت تاريخ البشرية وضبط الوعي
الكمبيوتر، تم اختراع آلة غيرت تاريخ البشرية، الكمبيوتر هي آلة تمكن الأفراد من القدرة على التفكير. وحسب تاربخ العالم، وبعد هذه الخطوة الكبيرة في حياة العالم، كان يتحتم العمل على ضبط الوعي الإنساني.
بعد اختراع الكمبيوتر بدأت التطورات التكنولوجية في التأثير على الوعي البشري والدماغ بطرق غير مسبوقة، في ظل هذه التحولات بدأ العلماء والمفكرون في فهم كيف يمكن ضبط الدماغ أو الوعي ليتماشى مع تلك التغيرات التكنولوجية الكبرى فبدأ البحث في العلاقة بين الدماغ البشري والآلات حيث يلعب علم الأعصاب دوراً حاسماً في فهم كيفية معالجة الدماغ للمعلومات، مما ساعد في تطوير التقنيات العصبية التي تتيح للأفراد التفاعل مع الكمبيوتر باستخدام الإشارات العصبية المباشرة. ومع إزدهار التكنولوجيا الرقمية ومنصات مثل الوكيبيديا والتي تجمع جميع المعارف والعلوم في منصة واحدة تمكن الأفراد من الوصول إليها بكل سهولة، كما لعب الإعلام الرقمي دوراُ بارزاُ في المعرفة التراكمية من خلال تقديم المحتوى التعليمي والعلمي المتنوع للجيل الناشيء والشباب مع بدء تشكل ملامح الإعلام المستقل في المنطقة العربية، فقد أسهم بشكل كبير في ضبط الدماغ والوعي في ظل التحولات التكنولوجية الرقمية من خلال الأبعاد التي تتعلق بكيفية تأثير التكنولوجيا الرقمية وظهور التعلم الإلكتروني eLearning من خلال البحث على طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع المعلومات، وتمكين التعلم عن بُعد من خلال المواقع الإلكترونية، كما ظهرت العديد من المنصات التعليمية مثل إدراك وكورسيرا Coursera وغيرها الكثير. أصبح التعلم عن بُعد أمرًا سهلًا وفعالًا، مما أتاح للعديد من الأفراد فرصة التعليم في أي وقت ومن أي مكان. بالإضافة إلى تنمية مهارات القرن الواحد والعشرين، إذ يساهم استخدام الشبكات الاجتماعية والمواقع الإلكترونية في تعليم الأفراد مهارات مثل التواصل الرقمي، إدارة الوقت، وتنظيم العمل في بيئات افتراضية. تساهم هذه المهارات في تكييف الأفراد مع التحولات التكنولوجية التي تحدث بشكل مستمر.
كما أصبح من السهل الوصول إلى المعلومات بسهولة وسرعة، كما أدى ذلك لظهور التعلم المصغر Microlearning وليس انتهاءا بثورة الذكاء الإصطناعي أدى لصعود منصات مثل chatgpt وغيرها ، حيث بدأ الدماغ البشري في التفاعل مع أداوت يمكنها تعلم الأنماط ومساعدته على تحسين الأداء، بالإضافة لتقنيات التعلم الآلي من خلال الذكاء الأصطناعي والتي أصبحت جزء من برامج التعليم الإلكتروني مثل تطبيقات تعليم اللغات الأجنبية والتي أظهرت نجاحاُ غير مسبوق في الطرق المتبعة لتعلم اللغات.
التكنولوجيا الرقمية تعزز القدرة العقلية للأفراد على معالجة كمية هائلة من المعلومات، يواجه الدماغ تحديا في التركيز في ظل عالم متسارع لاختيار المعلومات الأكثر صلة وموثوقية، بينما تمكن التكنولوجيا الرقمية القدرة على التنقل بين مصادر متعددة وتحليل وجهات نظر مختلفة وإتخاذ القرارات، فإن ذلك يحتاج إلى مهارات التفكير النقدي لتقييم المعلومات وتحليلها والتمييز بين الصحيح والمشوه.
التفكير النقدي مهارة اساسية في عصر المعلومات
يشكل التفكير النقدي بين الإنسان والآلة موضوعًا محوريًا في عصرنا الحديث، حيث يتزايد تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية. فعلى الفرد أن يتمتع بقدرة على التفكير النقدي والتحليل العميق بما يتضمن تقييم المعلومات وطرح الأسئلة والتفسير بناءاً على المعرفة التراكمية المتحصلة ووفقاً للظروف الإجتماعية، فحين أن الألة تعتمد على البرمجة والخوارزميات التي يتم تصميمها، فيظل تفكير الإنسان أكثر مرونة فهو يتحتم عليه اتخاذ القرارات واستخدام الحدس والاستقراء وما إلى ذلك حسب معرفته، أما الآلات فرغم تقدمها الكبير في تحليل البيانات بسرعة ودقة لا تضاهى فإن قدرتها على التفكير النقدي تقتصر على الأسس التي صممت عليها فهي تعتمد بشكل رئيسي على المعلومات المدخلة و الأنماط المحددة في الخوارزميات التي تتبعها، وهو خبر سعيد بالمناسبة فهو يعكس قدرة متقدمة من التصميم العلمي على انماط التفكير النقدي قد تضاهي قدرة الإنسان اليوم في ظل تراجع الوعي ومهارة التفكير النقدي! إلا أن الآلات في الحقيقة تفتقر إلى القدرة على فهم السياقات المعقدة او السياقات الأخلاقية والاستجابة العاطفية بنفس الطريقة التي يفعلها الإنسان.
فيمكن القول إن التفكير النقدي لدى الإنسان يظل يتفوق على الآلات في مجال الإبداع و التحليل العاطفي و القدرة على اتخاذ قرارات غير محددة، بينما تبرز الآلات في السرعة و الدقة في معالجة البيانات وتقديم الإجابات بناءً على الأنماط المبرمجة.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وغيرها، لا تمتلك القدرة على التفكير النقدي كما يفعل الإنسان. لكن يمكنها محاكاة أو تقليد جوانب من التفكير النقدي من خلال تحليل البيانات والإجابة على الأسئلة بناءً على الأنماط و المعلومات المدخلة. فالتفكير النقدي البشري يتطلب الوعي الذاتي والقدرة على التقييم والتحليل العميق للمعلومات واستخدام المعرفة التراكمية المتحصلة، في المقابل فأن تطبيقات الذكاء الإصطناعي لا تمتلك وعياً ذاتياً او قدرة على الفهم العاطفي او الخبرات الشخصية فبدلاً من ذلك يعتمد على البيانات المدخلة.
من المهم أن يمتلك الفرد مهارة التفكير النقدي ليتمكن من استخدام الذكاء الاصطناعي بفعالية، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية السريعة. بينما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم معلومات دقيقة وسريعة، إلا أن التفكير النقدي يساعد الفرد على تحليل وتقييم هذه المعلومات بشكل أكثر دقة ووعي. فالذكاء الإصطناعي يمكن أن يتضمن تحيزات استنادًا إلى البيانات التي تم تدريبه عليها، وهذا يشمل التحيزات الثقافية أو الاجتماعية. التفكير النقدي يساعد الشخص في اكتشاف هذه التحيزات أو القصور في الإجابات التي تقدمها الآلات، مما يمكنه من اتخاذ قرارات أكثر موضوعية. فإن امتلاك مهارة التفكير النقدي يعزز قدرة الفرد على التفاعل بوعي مع هذه التقنيات. إذ يسمح ذلك له باتخاذ قرارات أكثر وعيًا بشأن كيفية استخدام و توظيف الذكاء الاصطناعي في حياته.
في عصرنا الحالي، نشهد تطورات تكنولوجية ضخمة وتغييرات اجتماعية وسياسية تؤثر بشكل كبير على البيئة الحاضنة للمجتمعات العربية، مرحلة التفكيك الأخلاقي مهمة في إعادة بناء قيم إخلاقية متجددة وليست جامدة تتناسب مع الواقع المعاصر، حيث يعاد تعريف الذات، المسؤولية الإجتماعية، العدالة، الحرية والحق في الخصوصية بناء على الفهم الجديد للتحديات المعاصرة وتطوير مفاهيم اخلاقية أكثر توافقاً مع التحولات الثقافية والتكنولوجية.
منذ العام 2013 بات إزدهار التكنولوجيا الرقمية يسهم في تطور الوعي الإنساني وإلى يومنا هذا، وما يزال الوقت باكراً على جني الثمار. فقد يكون الجواب هو رهن السنوات العشرين القادمة!


